محمد أبعمران "بوتفوناست": حكواتي الجنوب الأمازيغي وصوت البساطة العميقة
🌄 مقدمة
في الذاكرة الفنية الأمازيغية، لا يمكن أن يُذكر اسم محمد أبعمران دون أن يتردد معه لقب "بوتفوناست"، تلك الشخصية التي أصبحت رمزًا للبساطة، والصدق، والضحك العفوي النابع من عمق الحياة القروية الأمازيغية.
لم يكن مجرد ممثل يؤدي أدوارًا، بل كان صوت الجنوب المغربي بكل ما يحمله من دفء ولهجة محببة، وصدى الحكمة الشعبية التي لا تدرس في المعاهد بل تُعاش في الحقول والأسواق والبيوت الطينية.
لقد استطاع هذا الفنان أن يجعل من الكلمة الأمازيغية مرآةً للواقع، ومن الضحكة أداة للتعبير عن الألم، ومن شخصيته البسيطة نافذةً على عمق الإنسان الأمازيغي.
🏜️ النشأة والبدايات
وُلد محمد أبعمران سنة 1936 في منطقة ورززات، المدينة التي تُعد من أجمل بوابات الجنوب الشرقي المغربي، والمعروفة بجمالها الطبيعي وبساطة أهلها. نشأ في بيئة قروية أصيلة، حيث كان الفن جزءًا من الحياة اليومية، في الأعراس، والمواسم، والحكايات التي تُروى ليلاً حول النار.
لم يتلق أبعمران تكوينًا أكاديميًا في المسرح أو السينما، لكنه كان يمتلك ما هو أثمن من ذلك: الموهبة الفطرية والقدرة على تقمص الشخصية والاندماج مع الناس.
كانت بدايته الحقيقية في عروض محلية ومسرحيات بسيطة تُقام في القرى، قبل أن ينتقل إلى أعمال أكثر شهرة جعلته وجهًا مألوفًا لدى جميع المغاربة.
🎭 “بوتفوناست”... الشخصية التي أصبحت أسطورة
من خلال شخصية "بوتفوناست"، أصبح أبعمران رمزًا فنيًا تجاوز حدود الشاشة. كانت الشخصية تمثل الرجل القروي الطيب، الذي لا يخلو من السذاجة، لكنه في الوقت نفسه يحمل في داخله ذكاءً فطريًا، وقدرة على قراءة المواقف بطريقته البسيطة والعميقة.
هذه الشخصية لم تكن من خيال الكتاب فقط، بل مستوحاة من الواقع الأمازيغي بكل تفاصيله.
في “بوتفوناست” رأى الجمهور نفسه:
-
ضحكوا حين ضحك.
-
تألموا حين عانى.
-
ووجدوا فيه صورة الإنسان الحقيقي الذي لا يملك سوى كرامته وصوته وروحه الصافية.
لقد كان بوتفوناست مدرسة في التمثيل الطبيعي، يعتمد على لغة الجسد، ونبرة الصوت، وتعبيرات الوجه، أكثر مما يعتمد على النصوص المكتوبة. كانت كلماته تخرج من القلب، ولذلك كانت تصل إلى القلب مباشرة.
🎬 مسيرته الفنية
راكم محمد أبعمران تجربة غنية ومتنوعة بين المسرح، التلفزيون، والسينما الأمازيغية الناشئة.
شارك في عدد كبير من الأعمال التي لاقت نجاحًا واسعًا، ومن أبرزها:
-
🎞️ سلسلة “بوتفوناست” الشهيرة، التي عرّفته إلى الجمهور المغربي والأمازيغي بشكل عام.
-
🎞️ أفلام درامية ناطقة بالأمازيغية تعالج قضايا اجتماعية بلمسة فكاهية وإنسانية.
-
🎭 مسرحيات شعبية كانت تُعرض في الأسواق والمهرجانات القروية، مما عزز صلته بالجمهور العادي.
لم يكن يسعى إلى الشهرة بقدر ما كان يبحث عن إيصال رسالة فنية نابعة من الواقع، ففنه كان مرآة للمجتمع، يعكس معاناته، ويُسجل ذاكرته الشعبية بطريقة بسيطة وممتعة.
🧙♂️ “الحكواتي” الذي أعاد الحياة للتراث
يُشبه كثيرون محمد أبعمران بالحكواتي الأمازيغي القديم، الذي يجمع الناس حوله ليحكي لهم القصص، ويضحكهم، ويُبكيهم، وينقل إليهم الحكم والأمثال.
لقد ورث من التراث الشفهي تلك القدرة على السرد، والتعبير، والتفاعل مع الجمهور.
كان يعرف كيف يجعل المشاهد يعيش القصة بكل تفاصيلها، من خلال نبرته الهادئة، ونظراته الصادقة، وطريقته الفريدة في المزج بين الجدّ والفكاهة.
💬 فلسفة البساطة في فنه
لم يكن “بوتفوناست” فنانًا أكاديميًا، بل كان ابن الحياة اليومية، يلتقط من تفاصيلها أجمل القصص.
كان يؤمن أن الفن ليس حكرًا على المدن أو القاعات الكبرى، بل يمكن أن يولد من بين حقول الزيتون وبيوت الطين.
أعماله كانت بسيطة في الشكل لكنها غنية في المضمون.
فمن خلال الضحك كان يُوجّه رسالة، ومن خلال موقف ساخر كان ينتقد الظلم أو الفقر أو الجهل.
هكذا جعل من الكوميديا وسيلة للتأمل، ومن السخرية طريقًا للوعي.
📺 أثره على السينما الأمازيغية
ساهم محمد أبعمران في وضع اللبنات الأولى للسينما الأمازيغية، التي كانت في بداياتها تعتمد على جهود فردية بسيطة.
من خلال شخصيته وأسلوبه الواقعي، ساعد على تثبيت اللغة الأمازيغية في الشاشة، وجعلها قريبة من الناس، مفهومة، ومحبوبة.
لقد فتح الباب أمام أجيال جديدة من الممثلين والمخرجين الأمازيغ الذين وجدوا في تجربته مصدر إلهام.
وحتى اليوم، لا يزال اسمه يُذكر في المهرجانات الثقافية والسينمائية كأحد روّاد الفن الأمازيغي الذين حافظوا على الهوية من خلال الفن.
🕊️ وفاته وإرثه الفني
رحل محمد أبعمران سنة 2020 في صمت يشبه طيبته.
لكن رحيله لم يكن نهاية، لأن أعماله لا تزال تُعرض على القنوات الأمازيغية، وتُتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، في مشاهد تُعيد إلى الذاكرة دفء تلك الأيام.
يقول أحد معجبيه:
“حين نشاهد بوتفوناست، نشعر أننا في بيتنا، نسمع كلام أمهاتنا وجداتنا، ونضحك من قلوبنا.”
ذلك هو سرّ خلوده: الصدق والبساطة.
💭 رأيي الشخصي كمشاهد
كثيرًا ما كنت أشاهد أعمال “بوتفوناست” مع العائلة في ليالي الصيف، حين كان التلفزيون يعرض إحدى حلقاته. كنا نضحك جميعًا، دون أن ندرك أن خلف تلك الضحكات كان فنانًا يحمل رسالة إنسانية نبيلة.
اليوم، حين أعيد مشاهدة تلك المقاطع على “يوتيوب”، أجد أن ما كان يقدمه محمد أبعمران ليس مجرد تمثيل، بل حياة مصغّرة مليئة بالقيم والذكاء الشعبي.
🌟 خاتمة
محمد أبعمران، أو "بوتفوناست"، لم يكن مجرد فنانٍ مرّ مرور الكرام، بل كان ذاكرة الجنوب الأمازيغي، وصوت الناس البسطاء الذين لا يملكون إلا الكلمة الصادقة والابتسامة الصافية.
ترك إرثًا فنيًا وإنسانيًا خالدًا، وجعل من الضحك رسالة مقاومة، ومن الفن وسيلة للحفاظ على الهوية.
رحمه الله، وجعل فنه منارة تُضيء طريق الأجيال القادمة، لتتعلم أن البساطة ليست ضعفًا، بل قوة تنبع من صدق الروح.

Atyrhm reby
ردحذف