محمد أبعمران "بوتفوناست"

محمد أبعمران "بوتفوناست": حكواتي الجنوب الأمازيغي وصوت البساطة العميقة



في الذاكرة الفنية الأمازيغية، لا يمر اسم محمد أبعمران دون أن يرافقه لقب "بوتفوناست"، الذي ارتبط به حتى أصبح اسمه الثاني في الوعي الجمعي للمغاربة. لم يكن مجرد ممثل يؤدي أدوارًا، بل كان صوتًا بسيطًا، صادقًا، عميقًا، يعكس حياة الأمازيغ في قراهم وسهولهم وأفراحهم وأحزانهم.

من "ورززات" إلى قلوب المشاهدين

وُلد محمد أبعمران سنة 1936 بمنطقة ورززات، إحدى بوابات الجنوب الشرقي المغربي، حيث تتلاقى الرمال بالحجر، وتعيش التقاليد في تناغم مع الطبيعة القاسية. نشأ في بيئة ريفية بسيطة، ما منحه ذلك الصدق الفني الذي طبع جميع أدواره فيما بعد.

بدأ مساره المهني في وقتٍ كان فيه المسرح الأمازيغي لا يزال في بداياته، واستطاع أن يفرض حضوره دون بهرجة أو ضجيج، فقط بالموهبة الفطرية والالتحام الحقيقي مع الناس.

بوتفوناست: الشخصية التي صارت أسطورة

عرفه الجمهور من خلال شخصية "بوتفوناست"، تلك الشخصية البسيطة، الطيبة، المتسرعة أحيانًا، لكنها لا تخلو من الحكمة العفوية. صار هذا الدور أكثر من مجرد أداء، بل صار مرآة للقرية الأمازيغية بكل ما فيها من روح الدعابة، والذكاء الشعبي، والمواقف اليومية.

ما يميز شخصية "بوتفوناست" أنها تجسّد الإنسان الأمازيغي العادي، الذي لا يملك السلطة ولا المال، لكنه يملك الكلمة والفكرة، ويستطيع أن يحوّل المعاناة إلى ضحكة، واللحظة العابرة إلى درس إنساني.

إرث مسرحي وسينمائي لا يُمحى

رغم بساطته الظاهرة، راكم محمد أبعمران تجربة فنية محترمة شملت:

  • العديد من المسرحيات المحلية الناطقة بالأمازيغية
  • مشاركات مميزة في السينما الأمازيغية الناشئة
  • أعمال تلفزيونية شعبية جعلت اسمه مألوفًا في البيوت المغربية

لم يكن يعتمد على تقنيات معقدة، بل كانت تعابير وجهه، وصوته، وطريقته في رواية القصة هي أدواته الحقيقية. لقد أعاد إلى الأذهان شخصية "الراوي" أو "الحكواتي"، الذي ينقل الواقع بأسلوب فكاهي، فيه سخرية من الذات، وفيه عمق إنساني.

محمد أبعمران... فنّان لا يتكرر

رغم أنه لم يحظَ بما يستحقه من تغطية إعلامية أو تقدير رسمي في حياته، ظل محبوبًا في الشارع وبين الناس البسطاء. كان كثيرون يرون فيه شبيهًا لهم، وأحيانًا صوتًا ناطقًا باسمهم دون أن يتكلم بلغة النخبة.

غادرنا محمد أبعمران سنة 2020، تاركًا خلفه فراغًا حقيقيًا في الساحة الفنية الأمازيغية. لكن آثاره ما تزال باقية، لا فقط في الأشرطة والأعمال، بل في الوجدان الجماعي لمن نشؤوا على ضحكاته ومواقفه.

رأيي الشخصي كمشاهد نشأ على "بوتفوناست"

أتذكر جيدًا مساءات الصيف في القرية، حين كنا ننتظر بفارغ الصبر عرض مسرحي أو حلقة من برنامج فيه "بوتفوناست". لم أكن أفهم آنذاك مدى عمق تلك الشخصية، لكنني كنت أشعر بأنها قريبة منّا، تشبهنا، وتتكلم لغتنا دون تصنّع.

اليوم، وأنا أعيد مشاهدة بعض أعماله، أكتشف أن الرجل لم يكن فنانًا عاديًا، بل كان ذاكرة مصغرة لشعبٍ بأكمله.

كلمات وداع لفنان الشعب

الفن لا يحتاج دائمًا إلى تقنيات أو ديكورات أو شهرة. أحيانًا، كل ما نحتاجه هو رجل صادق، يقول الحقيقة بأسلوب بسيط، ويضحكنا من داخل معاناتنا. هذا ما فعله محمد أبعمران طوال مسيرته.

رحم الله بوتفوناست، وألهم الجيل الجديد أن يستلهم من صدقه وبساطته.

📚 المصادر:

1 تعليقات

أحدث أقدم

نموذج الاتصال