الحسين إيبوركا (دَاحماد بوتفوناست): ذاكرة السينما الأمازيغية التي لا تموت
بدايات من البساطة والموهبة
وُلد الحسين إيبوركا سنة 1938 في دوار أيت إبراهيم أيوسف بجماعة أربعاء رسموكة، التابعة لإقليم تيزنيت جنوب المغرب. نشأ في بيئة أمازيغية قروية أصيلة، تسكنها الحكايات الشعبية والأمثال المأثورة والاحتفالات الموسمية التي تمجّد التراث والهوية. ومنذ طفولته، كان يستهويه تقليد كبار القرية ورواة القصص، ما كشف عن موهبة فطرية سترافقه مدى الحياة.
لم يكن طريق الفن سهلاً آنذاك، فإيبوركا لم يتلقَّ تكوينًا أكاديميًا في التمثيل، بل صنع نفسه بنفسه. بدأ مشواره في الأزقة والساحات العامة، حيث كان يجذب الناس حوله ليروي قصصًا ساخرة أو يؤدّي مشاهد تمثيلية قصيرة ضمن فن “الحلقة”، وهو المسرح الشعبي المغربي المفتوح الذي يُقدّم عروضًا في الهواء الطلق.
من هناك، من “جامع الفنا” بمدينة مراكش، انطلقت مسيرته الحقيقية نحو قلوب الناس قبل أن تصل إلى عدسات الكاميرا.
من الحلقة إلى الشاشة
جاءت شهرة الحسين إيبوركا متأخرة نسبيًا، لكنها كانت مدوية. فقد برز نجمه في التسعينيات من القرن الماضي عندما شارك في الفيلم الأمازيغي الشهير “بوتفوناست” (Da Hmad Boutfounaste) سنة 1990، والذي يُعدّ من أوائل الأفلام الأمازيغية الناطقة بالشلحية.
في هذا العمل، جسّد شخصية “دَا حماد”، الرجل البسيط الذكي الذي يستخدم الدعابة والحيلة لمواجهة الواقع القاسي. كانت الشخصية مزيجًا من الحكمة والسخرية، وجدت صداها في نفوس الجمهور الأمازيغي الذي رأى فيها انعكاسًا لروح الإنسان القروي المقهور والمكافح في آنٍ واحد.
حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا وانتشر على نطاق واسع، خاصة في شكل أشرطة فيديو VHS التي كانت الوسيلة الوحيدة حينها لمشاهدة الإنتاجات المحلية. ومع ازدياد شعبيته، تحوّل “دَا حماد” إلى أيقونة أمازيغية تُستحضر في النكت والأمثال الشعبية وحتى في الأغاني الساخرة.
بعد ذلك، شارك في عمل آخر لا يقل أهمية، هو فيلم “موكير” (Moker) الصادر سنة 1994، والذي جاء كتكملة للأول. ورغم تواضع الإمكانيات التقنية آنذاك، إلا أن روح الفريق والعفوية في الأداء جعلت العمل أكثر قربًا من الجمهور.
أسلوبه الفني وتميزه
تميّز الحسين إيبوركا بأسلوب تمثيلي فريد، يجمع بين البساطة والعمق. لم يكن يعتمد على النصوص المكتوبة بقدر ما كان يخلق الإحساس من داخله.
كان قادرًا على المزج بين الدراما والكوميديا في مشهد واحد، فيضحك المشاهد تارة ويبكي تارة أخرى.
شخصية “دَا حماد” لم تكن مجرد دور فني، بل كانت فلسفة حياة: رمز للذكاء الفطري للمغربي البسيط الذي يعيش بين الجدب والخصب، بين الصبر والتمرد، ويعرف كيف يسخر من معاناته دون أن يفقد الأمل.
ويؤكد عدد من المخرجين الذين اشتغلوا معه أنه كان يمتلك قدرة مذهلة على الارتجال، ما جعل مشاهده تبدو طبيعية وغير مصطنعة، حتى في غياب النصوص المكتوبة بدقة. كان يقول دومًا: “الفن ماشي حروف فالكاغط، الفن هو الروح اللي كتخرج من القلب”.
إرثه الفني وتأثيره الثقافي
رغم أن مسيرته لم تكن طويلة في عدد الأفلام، إلا أن تأثيرها كان عميقًا. فقد ساهم الحسين إيبوركا في وضع اللبنة الأولى للسينما الأمازيغية الحديثة، التي أصبحت اليوم قطاعًا مزدهرًا داخل المشهد السينمائي المغربي.
كان ظهوره في فترة صعبة، حيث كانت اللغة الأمازيغية لا تجد مكانها في الإعلام الرسمي ولا في الإنتاجات السينمائية. لكن بفضل رواد مثله، تمكنت من فرض حضورها شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت اليوم لغة تُدرَّس وتُحتفى بها في المهرجانات الفنية.
لقد ألهم “دَا حماد بوتفوناست” أجيالًا من الممثلين الشباب الذين رأوا فيه نموذج الفنان الأصيل، الذي لا يحتاج إلى بهرجة ليصل إلى الناس. يكفيه الصدق والبساطة.
وفاته ورحيله الموجع
في 3 يوليوز 1999، رحل الحسين إيبوركا عن عمر يناهز 61 سنة بمدينة مراكش، بعد فترة قصيرة من انتهائه من تصوير فيلم “موكير”.
كان خبر وفاته صادمًا لعشاق السينما الأمازيغية، إذ شعر الكثيرون أن فنانًا كبيرًا غادر قبل أن يأخذ حقه الكامل من التقدير.
إلا أن رحيله لم يكن نهاية، بل بداية أسطورة فنية ما تزال حاضرة إلى اليوم. فكلما عُرض فيلم “بوتفوناست” على شاشة التلفزيون أو على مواقع التواصل الاجتماعي، يتجدد الحنين إلى تلك الأيام البسيطة التي كان فيها الفن الأمازيغي نابعًا من القلب.
وتُقام إلى اليوم في بعض مناطق سوس وتيزنيت لقاءات فنية وثقافية لتخليد ذكراه، تُستعاد فيها مقاطع من أفلامه، وتُروى حكايات عن شخصيته الطيبة والمتواضعة.
رأيي في الفنان
من وجهة نظري، لم يكن الحسين إيبوركا مجرد ممثل عابر، بل كان صوت مجتمع بأكمله.
استطاع أن يُجسّد هموم المواطن الأمازيغي، وأن يقدّم صورة حقيقية عن الإنسان المغربي البسيط الذي يعيش بكرامة رغم قسوة الظروف.
شخصية “دَا حماد” ستظل رمزًا خالدًا للفكاهة الهادفة، التي تمزج بين النقد الاجتماعي والرسالة الإنسانية.
كان يؤمن بأن الفن ليس للترف، بل وسيلة للتعبير عن الواقع وتحفيز التغيير. ولذلك، ترك وراءه مدرسة فنية تعتمد على الصدق، واللغة الأم، والقرب من الناس.
الإرث الذي لا يُمحى
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على رحيله، ما تزال أعمال الحسين إيبوركا تُشاهد في كل بيت أمازيغي، وتُنشر على يوتيوب وفيسبوك بآلاف المشاهدات.
وما يثير الإعجاب أن الشباب الذين لم يعاصروه يعرفونه من خلال تلك المقاطع، ويستحضرونه كرمز للبساطة والوفاء للفن الأصيل.
يمكن القول إن “دَا حماد بوتفوناست” ليس مجرد اسم فني، بل ذاكرة جماعية تختزن روح الإنسان الأمازيغي الطيب، الحكيم، والمحب للحياة رغم صعوباتها.
المصادر والمراجع
ويكيبيديا العربية: صفحة الحسين إيبوركا (ar.wikipedia.org).
ويكيبيديا الإنجليزية: ملف Lahoucine Ibourka (en.wikipedia.org).
Atig Media: تقارير حول سيرته ومساره الفني (atigmedia.ma).
مقاطع ووثائقيات على فيسبوك ويوتيوب: توثق مواقفه وتأثيره في الذاكرة الأمازيغية.
ويكيبيديا العربية: صفحة الحسين إيبوركا (ar.wikipedia.org).
ويكيبيديا الإنجليزية: ملف Lahoucine Ibourka (en.wikipedia.org).
Atig Media: تقارير حول سيرته ومساره الفني (atigmedia.ma).
مقاطع ووثائقيات على فيسبوك ويوتيوب: توثق مواقفه وتأثيره في الذاكرة الأمازيغية.

